الهجرة كورقة نفوذ: كيف يوظف الدبيبة التحركات الأوروبية لترسيخ موقعه في المشهد الليبي؟

0
285

تشهد ليبيا تحركاً أوروبياً واسع النطاق تمثل في إطلاق بعثة رسمية رفيعة المستوى شملت محطتين رئيسيتين في طرابلس وبنغازي، وذلك في سياق تصاعد الضغوط الناجمة عن الهجرة غير الشرعية وتزايد التوترات في شرق البحر المتوسط.

ويقود هذه المهمة المفوض الأوروبي للشؤون الداخلية والهجرة، ماجنوس برونر، بمشاركة وزراء داخلية من إيطاليا واليونان ومالطا، وهي تركيبة تعكس مركزية البعد المتوسطي في تصور الاتحاد الأوروبي لحل أزمة الهجرة.

وتمثل البعثة أول تحرك أوروبي مزدوج يشمل الجانبين الغربي والشرقي من ليبيا منذ سنوات، في إشارة إلى مقاربة أكثر واقعية تراعي الانقسام القائم وتستهدف التنسيق مع كافة الفاعلين المحليين، بما في ذلك سلطات شرق ليبيا التي كانت محور زيارة استباقية لوزير الخارجية اليوناني جورج جيرابتريتيس قبل أيام من انطلاق المهمة.

ولا تقتصر المهمة الأوروبية على دعم القدرات الليبية في ضبط الحدود البحرية والبرية، بل تحمل في طياتها بعدًا استراتيجيًا أعمق، مرتبطاً بإعادة التموضع في شرق المتوسط، خاصة مع تزايد التداخل بين المناطق الاقتصادية الخالصة لليونان وتركيا وليبيا ومصر.

وفي هذا السياق، كثّفت اليونان من نشاطها البحري جنوب جزيرة كريت، بهدف الحد من انطلاق قوارب الهجرة، لكن هذه التحركات تُقرأ أيضاً في سياق تثبيت مصالحها الجيوسياسية في مواجهة التمدد التركي وتعقيدات ملف الغاز. كما أبدت أثينا استعدادها لتقديم دعم فني مباشر لسلطات الشرق الليبي في مجال الرقابة الساحلية، مع مقترحات بشأن اتفاقيات تعاون ثنائية على غرار تلك الموقعة مع طرابلس وروما.

وفي العاصمة الليبية، حرص رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، على استثمار الزيارة سياسياً، وتقديم نفسه كشريك موثوق، مقابل الحصوب على دعم سياسي لعمليات الأمنية في غرب ليبيا، فتحدث عن تحول نوعي في مقاربة حكومته لملف الهجرة، عبر إطلاق خطة وطنية شاملة تتجاوز الحلول المؤقتة، وتستند إلى أربع دوائر دفاعية موزعة على الحدود، والصحراء، ومراكز المدن، والسواحل.

وأكد الدبيبة، خلال افتتاحه اجتماعاً رسمياً مع الوفد الأوروبي، أن حكومة الوحدة لا تنظر إلى الهجرة باعتبارها أزمة تقنية، بل كملف متعدد الأبعاد يتقاطع مع الأمن والتنمية والسيادة، مشدداً على ضرورة تقاسم المسؤوليات مع الشركاء الأوروبيين، وداعياً إلى دعم سياسي مباشر لمسار أمني يستهدف تفكيك الجماعات المسلحة المتورطة في التهريب داخل طرابلس، باعتباره مدخلًا لاستعادة الاستقرار على المدى الطويل.

من جانبه، أوضح وزير الداخلية في حكومة الوحدة، عماد الطرابلسي، أن الخطة الجديدة للحكومة وُضعت بتوجيه مباشر من رئيس الحكومة، وتهدف إلى التعامل مع تدفقات الهجرة من المنبع، وليس فقط عند نقطة الخروج.

وأشار إلى تعليمات مشددة بتشجيع العودة الطوعية، بالتوازي مع تنسيق الجهود مع الاتحاد الأوروبي لتعطيل نشاط شبكات الاتجار بالبشر، التي وصفها بأنها باتت أكثر تنظيماً من أي وقت مضى.

وتتقاطع هذه التصريحات مع تقرير استخباراتي إيطالي حديث كشف عن قدرة عالية لشبكات التهريب في ليبيا على الصمود أمام الضغوط، مستفيدة من تدهور البنية المؤسسية وامتداد عملياتها في مساحات واسعة من البلاد، حيث تُقدَّر أعداد المهاجرين الموجودين على الأراضي الليبية بأكثر من 800 ألف شخص، وفق بيانات أممية، في حين تشير التقديرات الحكومية الليبية إلى احتمال تضاعف هذا الرقم في حال استمرار الظروف الحالية، ما يجعل من ليبيا حالة عبور مركبة تتجاوز طاقتها المؤسسية والأمنية.

وعلى الجانب الأوروبي، تبرز مؤشرات واضحة على القلق من تفاقم الوضع، لاسيما في ظل تزايد وصول المهاجرين إلى جزر كريت وغافدوس، حيث تشير السلطات اليونانية إلى تسجيل نحو 1400 مهاجر خلال 72 ساعة فقط، مع بلوغ العدد الإجمالي أكثر من ثمانية آلاف منذ بداية العام.

ودفعت هذه الأرقام الناطق باسم الحكومة اليونانية إلى التحذير من “وضع معقد وخطر للغاية”، مرجحاً اتخاذ تدابير أكثر صرامة إذا لم تُحقق الجهود الدبلوماسية نتائج ملموسة. وبينما تؤكد أثينا أن ما يمس ليبيا يمسها مباشرة، باعتبار القرب الجغرافي والتأثير المباشر على جزرها، فإنها تسعى، من خلال هذه التحركات، إلى الانتقال من موقع المتلقي للأزمة إلى شريك في إدارتها.

وفي ضوء هذا المشهد، تظل المعالجة الفعلية رهينة بقدرة الأطراف الليبية على تعزيز السيطرة الميدانية وتفكيك البنى غير الرسمية التي تغذي الظاهرة، وبمدى استعداد الاتحاد الأوروبي للانتقال من منطق الاحتواء المؤقت إلى الشراكة المؤسسية طويلة المدى، فالهجرة، كما تبدو في الحالة الليبية، لم تعد مجرد نتيجة للأوضاع الإفريقية، بل تحوّلت إلى متغير استراتيجي يعيد تشكيل خطوط التماس السياسي والأمني في الفضاء المتوسطي.

وتبقى قدرة ليبيا على التحول من نقطة عبور إلى فاعل منضبط في منظومة الأمن الإقليمي، مشروطة بتوازن داخلي هش، ودعم خارجي لم تتضح ملامحه بشكل نهائي بعد.