وجه محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير، خطاب إلى رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد دبيبة، علق فيه على كلمة الأخير في الاحتفال بذكرى ثورة 17 فبراير والتي أشار فيها إلى الأوضاع المالية وسعر الصرف وزيادة المرتبات.
وقال الكبير في خطابه لدبيبة: تضمنت كلمتكم في الاحتفال بذكرى ثورة 17 فبراير يوم السبت الموافق 2024/02/17، نقاطاً تتعلق بالأوضاع المالية وسعر الصرف وزيادة المرتبات، وهي نقاط حساسة، ولما كان مصرف ليبيا المركزي هو المستشار الاقتصادي للدولة وفقا للتشريعات النافذة، فإنه صار لزاماً علينا أن تلفت كريم عنايكم إلى الآتي :
أولاً : لا نختلف معكم في أن من حق الليبيين أن يحيوا حياة كريمة وأن يحصلوا على مرتبات تكفل عيشاً كريماً، ولكن ذلك لا يتحقق إلا بحسن إدارة الموارد المالية، مع ضمان استدامة تلك الحياة الكريمة.
ثانياً: لا يخفى عليكم أن النفط هو المصدر الوحيد للدخل في الدولة الليبية، والذي يمول الميزانية العامة بأكثر من 95% .
ثالثاً: أشرتم إلى الرغبة في أن يكون سعر الدولار 1.3 دينار للدولار، ولكن الرغبة وحدها لا تكفي لتحقيق ذلك، إذ إن الممارسات الفعلية للحكومات المتعاقبة كانت عكس ذلك فالتوسع غير المدروس في الإنفاق العام طيلة السنوات الماضية وخصوصا الاستهلاكي الذي يستحوذ على أكثر من 95% من الانفاق العام، تشكل المرتبات وحدها 60% من الإنفاق العام، حيث قفز بند المرتبات من 33 مليار دينار عام 2021 إلى 65 مليار عام 2023 وارتفع بند الدعم من 20.8 مليار عام 2021 بما في ذلك دعم المحروقات إلى 61 مليار خلال عام 2022 ونتوقع أنها تفوق 61 مليار دينار في العام 2023 منها 41 مليار دينار لدعم المحروقات الذي تنامى بشكل ملفت ويستنزف سنويا ما يقارب 8.5 مليار دولار، ناهيك عن نفقات الدعم الأخرى التي توجه لقطاع الكهرباء مباشرة بقيمه 40 مليار دينار ليصل إجمالي نفقات الدعم المباشر وغير المباشر إلى 102 مليار دينار سنويا، وهنا نتساءل كيف قفزت مصروفات الباب الرابع من 20.8 مليار دينار بما فيها دعم المحروقات في عام 2021 إلى 61 مليار دينار في عام 2022، مما يؤكد وجود خلل وتشوه وسوء إدارة في دعم المحروقات. أنفقت الدولة منذ عام 2021 حتى نهاية 2023 قرابة 420 مليار دينار، وجه معظمه لنفقات استهلاكية على حساب الإنفاق التنموي ولدت ضغوطاً على سعر صرف الدينار الليبي.
رابعاً: أشرتم في خطابكم إلى زيادة المرتبات وتقديم مزيد من المنح حيث إن التوسع في الإنفاق قد يُرضي بعض الفئات على المدى القصير ولكنه يتنافى مع مبادئ الاستدامة المالية وضمان حقوق الأجيال القادمة، وهو ما تتطلبه الإدارة الرشيدة للمال العام، وسؤالنا هو من أين ستوفر الحكومة تمويل هذه الزيادات خصوصا في ظل تراجع حجم الإيرادات المتوقعة لعام 2024 إلى مستوى 115 مليار دينار وفقا لتقديرات المؤسسة الوطنية للنفط، و 5 مليار دينار إيرادات سيادية أخرى، بإجمالي وقدره 120 مليار دينار، وإن الاستمرار بنفس السياسات المالية سوف يزيد الأمر تعقيداً، ويترتب عليه عجز مؤكد هذا يستوجب العمل معاً لاتخاذ السياسات الكفيلة لتفادي التمويل بالعجز.
خامساً: اتساع الإنفاق الموازي المجهول المصدر الذي أثر بشكل مباشر على زيادة الطلب على النقد الأجنبي في الأشهر الأخيرة لعام 2023 نتج عنه ارتفاع سعر الصرف الموازي رغم ضخ مبلغ 5 مليار دولار زيادة عن العام 2022.
سادساً: إن الانتقال من سعر صرف 1.3 دينار للدولار إلى 4.85 دينار للدولار لم يكن خيارا للمصرف المركزي بل كان نتيجة لازمات متعاقبة منذ عام 2013 ، بسبب الاقفال التعسفي للنفط الذي كبد الدولة الليبية خسارة بحوالي 150 مليار دولار، صاحبه خلل في السياسات المالية والتجارية و. وحالة الانقسام السياسي والمؤسسي وتنامي وتيرة الإنفاق العام وإتباع سياسة التمويل بالعجز أدت إلى ارتفاع الدين العام وتفاقم العجز في ميزان المدفوعات الذي استنزف جزءاً كبيراً من احتياطيات الدولة من النقد الاجنبي، ولم يكن هناك خيار لإحداث التوازن والحفاظ على ما تبقى من خط الدفاع الأول احتياطيات النقد الأجنبي إلا بتخفيض قيمة الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية، وقد حققت هذه الخطوة أهدافها وأحدثت استقراراً واضحاً خلال عامي 2021 و 2022 على مستوى الاقتصاد الكلي والتوازن في الميزانية العامة وميزان المدفوعات واستقراراً في سعر صرف الدينار الليبي، إلا أن استمرار الحكومة في زيادة مستوى الإنفاق العام بشكل ملحوظ وبلوغه مستوى 165 مليار دينار عام 2023 ووجود إنفاق مواز مجهول المصدر، أسهم كل ذلك في ارتفاع حجم الطلب من النقد الاجنبي بالرغم من قيام المصرف المركزي بزيادة حجم العرض من النقد الأجنبي بمقدار 5 مليار دولار مقارنة بعام 2022 الذي بلغ 16 مليار دولار، صاحبه استقرار في الطلب وفي سعر الصرف الموازي مقارنة بمبلغ 21 مليار دولار خلال العام 2023 صاحبه زيادة في الطلب وارتفاع في سعر الصرف منذ الربع الرابع من العام 2023 ، علماً بأن الزيادة في الطلب على النقد الأجنبي بدأت في الربع الأخير من العام 2023. الأمر الذي صعب مهمة المصرف المركزي في الدفاع عن سعر الصرف الحالي 4.85 دينار للدولار، فكيف يكون سعر الصرف 1.3 دينار للدولار حسب تصريحكم في ظل هذه المعطيات وأهمها حجم الإنفاق العام والموازي، وحجم عرض النقود الذي بلغ 160 مليار دينار، إلا باستنزاف احتياطيات المصرف المركزي واللجوء إلى الافتراض من المؤسسات الدولية، وهو ليس بالأمر الهين، وينال من سيادة الدولة واستقرارها.
سابعاً: إن مصرف ليبيا المركزي وانطلاقا من واجبه الوطني ومسؤوليته أمام الوطن والمواطن سيعمل على المحافظة على الاستدامة المالية للدولة بكل ما أمكن، سواء بشكل منفرد أو بالتعاون مع بقية مؤسسات الدولة، وإننا ندعو الجميع للعمل معاً وإقرار السياسات الاقتصادية والمالية الضرورية للخروج من هذه الأزمة الخانقة، وذلك من خلال :
(1) إيقاف الإنفاق الموازي المجهول المصدر، وإقرار ميزانية موحدة لكامل التراب الليبي.
(2) ترشيد الإنفاق بما يُحافظ على احتياطيات الدولة وحقوق الأجيال القادمة.
(3) تنويع مصادر الدخل وتعزيز دور القطاع الخاص وتخفيض الاعتماد على الواردات الخارجية من السلع الاستهلاكية التي تجاوزت نسبته 80٪.
(4) على المدى القريب والمتوسط، زيادة إنتاج النفط وتصديره.
(5) أن تكون أولوية الإنفاق للاستثمار في التنمية الشاملة.
ختاماً، وجب بيان هذه الحقائق الجوهرية، ومن باب تحمل المسؤولية التاريخية وأداء الأمانة، فإن الأمر يستلزم ضرورة العمل الجاد للخروج من الأزمة والوصول إلى العيش الكريم والمستدام الذي تطمح إليه جميعاً.