ترسخ الفساد في ليبيا: مؤشرات مقلقة ونذر انهيار اقتصادي

0
118
علم ليبيا
علم ليبيا

يكشف التصنيف الدولي للجرائم الاقتصادية لعام 2025 عن ملامح خطيرة لأزمة الفساد في ليبيا، حيث جاءت البلاد ضمن أخطر عشر دول من حيث انتشار الفساد المالي وغسيل الأموال والجرائم الاقتصادية المنظمة، ما يعكس هشاشة البنية السياسية والمؤسسية، والانهيار شبه الكامل للأجهزة الرقابية، لم تعد ليبيا ساحة صراع سياسي فقط، بل أصبحت مركزاً إقليمياً للجريمة المالية العابرة للحدود.

ويشير التقرير إلى أن ليبيا تعاني من غياب التشريعات الرادعة وضعف الرقابة المؤسسية، وهو ما أتاح لمراكز النفوذ والميليشيات مساحة واسعة للتمدد في المجال المالي، بما في ذلك عمليات غسيل الأموال وتمويل الجماعات المسلحة. 

ومن المتوقع أن ترتفع الجرائم المالية الإلكترونية بنسبة 60% بنهاية 2025، نتيجة استغلال أدوات الذكاء الاصطناعي لأغراض الاحتيال، ما يُضاعف من تعقيد الأزمة ويؤكد اختراق البنية الرقمية للدولة.

أحد أبرز تجليات الفساد المالي في ليبيا يتمثل في تحويل قطاع النفط إلى أداة سياسية بيد حكومة الوحدة الوطنية، التي استغلته لتأمين الولاءات وشراء النفوذ، بينما جرى توظيف العائدات خارج الأطر الاقتصادية التنموية. 

وتخضع المؤسسة الوطنية للنفط لتجاذبات حادة بين مراكز القوى، مما أفقدها استقلالها وفتح الباب أمام توزيع غير قانوني للإيرادات، في ظل غياب الأجهزة الرقابية القادرة على محاسبة المتورطين.

الفساد لم يتوقف عند قطاع النفط، بل امتد ليطال مجالات حيوية مثل البنية التحتية والطاقة والتعليم والقطاع المصرفي، حيث أشارت تقارير دولية إلى أن 40% من المشاريع العامة لم تُنفذ رغم رصد موازنات ضخمة لها، ما أدى إلى تفاقم تدهور الخدمات الأساسية، وترك الملايين من المواطنين في مواجهة أوضاع معيشية قاسية.

وتُعمق الانقسامات السياسية بين الشرق والغرب من أزمة الفساد، حيث تُدار مؤسسات الدولة بشكل مزدوج، ما يُعزز تضارب الصلاحيات ويفسح المجال أمام شبكات التهريب لفرض نفوذها عبر الموانئ والمعابر الحدودية، دون وجود سلطة موحدة تضبط الفوضى المالية.

ولم تمر تداعيات هذا الواقع دون صدى دولي، إذ ناقش مجلس الأمن الأزمة الليبية مؤخرًا، وركّز في جلسته على خطورة الفساد، حيث دعا المندوب الليبي إلى توحيد الترتيبات المالية كخطوة أولى نحو الإصلاح، فيما حذر المندوب الروسي من خطر انفجار اجتماعي قادم إذا استمرت الأزمة الاقتصادية دون معالجة جذرية.

وفي سياق موازٍ، سلط مقال تحليلي للمجلس الأطلسي الضوء على التغلغل العميق للفساد في المؤسسات الليبية، معتبراً أن النفوذ الواسع للتشكيلات المسلحة داخل البنية المالية بات يهدد بإفشال أي محاولة للإصلاح. 

وأشار المقال إلى أن إجراءات مثل تعديل سعر الصرف لا تمثل سوى حلول مؤقتة في ظل فقدان المواطن الليبي للثقة بالمؤسسات النقدية.

ويرى كاتب المقال أن توحيد الحكومة، دون إصلاح جذري للهياكل المالية، سيؤدي إلى مركزة الفساد لا إلى معالجته، مشدداً على ضرورة إنشاء آليات فعالة للرقابة والمحاسبة، وإلزام الجهات الحكومية بالكشف عن أوجه الإنفاق، كشرط أساسي للخروج من الفوضى المالية.

وفي تطور يكشف عن عمق الفساد، فتحت هيئة الرقابة الإدارية الليبية مؤخراً تحقيقاً في مخالفات جسيمة داخل مكتب استرداد أموال الدولة بالخارج، بعد الكشف عن تلاعب واسع في إدارة الأصول الليبية المجمدة منذ 2011، والتي تبلغ قيمتها نحو 200 مليار دولار. 

وشملت التحقيق مسؤولين كباراً، بينهم مدير المكتب، على خلفية شبهات تتعلق باختفاء أو تسييل غير قانوني لفوائد هذه الأموال.

وأعادت تقارير إعلامية بلجيكية في يوليو الماضي فتح ملف الأموال الليبية في الخارج، بعد الكشف عن اختفاء 2.3 مليار دولار من فوائدها بين عامي 2012 و2017، ما يطرح علامات استفهام كبرى حول مصير هذه الثروات، ويعزز المخاوف من استمرار التلاعب بها رغم تشكيل لجان حكومية منذ 2021 لمتابعتها.

ويعكس تصنيف ليبيا ضمن أكثر عشر دول فساداً في العالم وفق منظمة الشفافية الدولية، فشل الجهود الرسمية في كبح جماح الفساد، ويُظهر حجم التحديات التي تواجه المؤسسات الرقابية والقضائية، في وقت تتسارع فيه وتيرة الفساد على حساب الأمن والاستقرار.

في المجمل، يتضح أن معضلة الفساد في ليبيا لم تعد أزمة مالية فحسب، بل باتت تهديداً وجودياً للدولة، يقوّض مؤسساتها، ويغذي اقتصاد الميليشيات، ويُفرغ السيادة من مضمونها. 

وتتطلب مواجهة هذا الواقع إرادة سياسية صلبة، وإصلاحاً مؤسسياً جذرياً، يبدأ من تفكيك شبكات النفوذ المالي، ويمر عبر توحيد المؤسسات، وينتهي ببناء منظومة رقابية مستقلة تستعيد ثقة المواطن، وتعيد توجيه الثروات نحو التنمية والاستقرار.