يعكس الجدل المتصاعد بين المؤسسة الوطنية للنفط ومصرف ليبيا المركزي، على خلفية تراجع توريدات الإيرادات منذ سبتمبر 2025، أزمة أعمق من مجرد أرقام مالية أو اختلاف في التقديرات، إذ يفتح ملف إدارة المال العام وأولويات الإنفاق في دولة يعتمد اقتصادها شبه كلياً على النفط كمصدر وحيد للعملة الصعبة.
المؤسسة الوطنية للنفط سعت، عبر مذكرة رسمية وُجهت إلى هيئة الرقابة الإدارية، إلى تفكيك الرواية التي حملها محافظ المصرف المركزي بشأن محدودية التوريدات، مؤكدة أن الانخفاض لا يرتبط بأي اختلال هيكلي في الإنتاج أو التصدير، ولا يعكس تراجعاً في قدرة المؤسسة على تحقيق الإيرادات، بقدر ما يكشف خللاً في منظومة الإنفاق وترتيب الأولويات داخل المصرف المركزي.
وتستند المؤسسة في موقفها إلى وقائع موثقة، أبرزها أن تصريحات المحافظ حول توريد 308 ملايين دولار فقط خلال ديسمبر الجاري “غير دقيقة”، بحسب وصفها، خاصة وأن أسباب تذبذب التوريد نوقشت بشكل تفصيلي خلال اجتماع رسمي بديوان المحاسبة في 26 نوفمبر 2025، بحضور رئيس الديوان والنائب العام ومحافظ المصرف نفسه، الذي أبدى آنذاك تفهمه للتفسيرات الفنية والمالية المقدمة، ما يطرح تساؤلات حول دوافع إعادة طرح الملف لاحقاً بخطاب اتهامي أمام الرأي العام.
من منظور تحليلي، تحاول المؤسسة نقل النقاش من مربع “كم دخل” إلى مربع “كيف أُنفق”، معتبرة أن اختزال الأزمة في أرقام التوريد دون التطرق إلى نمط الصرف يشكل قراءة مبتورة للمشهد المالي، ويُسهم في تحميل جهة الإيراد مسؤولية إخفاقات تتعلق بإدارة السياسة المالية.
فالإشكال، وفق المذكرة، لا يكمن فقط في حجم الإيرادات النفطية، بل في غياب سياسة مالية واضحة تربط بين الإيراد المتوقع وأوجه الصرف، وتضمن توجيه الموارد نحو الأولويات السيادية والإنفاق المنتج.
وتستند المؤسسة في طرحها إلى الإطار القانوني، مذكّرة بأن قانون المصارف يُحمّل المصرف المركزي مسؤولية تنفيذ السياسة النقدية وتحقيق الاستقرار المالي، بما يعني قانونياً تجنب توجيه النقد الأجنبي للإنفاق الاستهلاكي على حساب الاستثمار المنتج.
وفي هذا السياق، تبرز نقطة الخلاف الأكثر حساسية، والمتمثلة في إعلان المصرف عجزه عن تغطية مرتبات ديسمبر، في وقت كشف فيه رسمياً عن بيع نحو 2.1 مليار دولار من النقد الأجنبي خلال النصف الأول من الشهر، أي ما يعادل قرابة 13 مليار دينار ليبي.
هذا التناقض، بحسب قراءة المؤسسة، يعكس خللاً جوهرياً في ترتيب الأولويات، حيث تُموّل اعتمادات جانبية ومصارف ثانوية، ثم يُعلن العجز عند الوصول إلى استحقاقات أساسية تمس الاستقرار الاجتماعي، مثل المرتبات.
ويزداد المشهد تعقيداً مع إشارة المؤسسة إلى امتناع المصرف عن توفير النقد الأجنبي المخصص للمحروقات، رغم توقف نظام المبادلة وتخصيص الحكومة مبالغ بالدينار لهذا الغرض، ما أدى إلى تعطيل سداد فاتورة المحروقات وخلق تهديد مباشر لاستقرار الإمدادات الحيوية.
وعلى مستوى العوامل الموضوعية، لا تنفي المؤسسة وجود ضغوط حقيقية على الإيرادات، لكنها تضعها في سياقها الواقعي، مشيرة إلى تراجع أسعار النفط العالمية بنحو 11 دولاراً للبرميل مقارنة بعام 2024، وارتفاع الاستهلاك المحلي من الوقود والغاز، إضافة إلى عدم اعتماد احتياجات البلاد من المحروقات، وهو ما قلّص الكميات المتاحة للتصدير، وأثر مباشرة على حجم التوريدات.
غير أن أخطر ما تطرحه المؤسسة، من زاوية استراتيجية، يتمثل في التحذير من تداعيات حرمانها من الميزانيات التشغيلية والاستثمارية، فعدم تسييل ميزانية 2025، وصرف أقل من 20% من ميزانية 2024، كاد — بحسب المذكرة — أن يؤدي إلى فقدان ربع الإنتاج التصديري، لولا اللجوء إلى آلية الدفع بالإنابة، وهو ما يضع علامات استفهام حول مفهوم “ترشيد الإنفاق” عندما يتحول إلى أداة تقييد للقطاع المنتج الوحيد في البلاد.
وفي هذا الإطار، طالبت المؤسسة هيئة الرقابة الإدارية بالتدخل لمطالبة المصرف المركزي بوضع خطة إنفاق شفافة تربط الإيرادات النفطية بأوجه الصرف، وتضمن تمويل الميزانيات التشغيلية والاستثمارية للمؤسسة، إلى جانب دعم القطاعات الإنتاجية وتعزيز الرقابة على توجيه الموارد، باعتبار ذلك مدخلاً ضرورياً لصون الاستقرار المالي.
في المقابل، يقدّم مصرف ليبيا المركزي أرقامه الخاصة، إذ أعلن، أمس الإثنين، أن قيمة الإيرادات النفطية الموردة منذ بداية ديسمبر وحتى 22 من الشهر بلغت نحو 671 مليون دولار فقط، مؤكداً استمراره في بيع النقد الأجنبي بانتظام وبمعدلات تلبي احتياجات السوق.
كما سبق أن كشف، الخميس الماضي، عن بيع 2.1 مليار دولار خلال الفترة من 1 إلى 16 ديسمبر، موزعة بين الاعتمادات المستندية، والحوالات، والأغراض الشخصية، وبطاقات صغار التجار، مع الإشارة إلى مبالغ كبيرة لا تزال معلقة أو لم تُصرف بعد.
وبحسب بيانات المصرف ذاته، فإن الإيرادات النفطية خلال الفترة من 1 إلى 16 ديسمبر لم تتجاوز 410 ملايين دولار، وهو ما يكشف فجوة واضحة بين حجم النقد الأجنبي المباع فعلياً والإيرادات المتأتية من النفط، ما يعيد الجدل إلى مربعه الأساسي: هل الأزمة في ضعف الإيراد، أم في إدارة الإنفاق؟
في المحصلة، لا يبدو الخلاف مجرد تباين تقني بين مؤسستين، بقدر ما يعكس صراع سرديات حول المسؤولية عن الاختلال المالي، في دولة لا تزال تفتقر إلى ميزانية موحدة وسياسة مالية شفافة، فيما يبقى النفط — بكل تناقضاته — محور الاستقرار ومصدر الخلاف في آن واحد.
- الرقابة الإدارية ومجلس الدولة يناقشان مراجعة الحسابات الختامية وعوائد النقد الأجنبي
- تراجع الإيرادات يشعل خلافاً بين مؤسسة النفط ومصرف ليبيا المركزي حول أولويات الإنفاق
- أجواء باردة نسبياً على الشمال الغربي واستقرار الطقس ببقية مناطق ليبيا
- بعد موافقة البرلمان.. تركيا تمدد وجود قواتها العسكرية في ليبيا لعامين إضافيين
- خارجية الحكومة الليبية المكلفة تنفي مزاعم اختطاف عائلة هندية وتؤكد سلامتها



