بئر الغنم.. مركز للهجرة يتحول إلى مرآة للفوضى في غرب ليبيا

0
134

في قلب الجنوب الغربي لطرابلس، يقف مركز بئر الغنم شاهداً على مأساة مركبة تتداخل فيها الانتهاكات الإنسانية مع حسابات سياسية وأمنية محلية ودولية.

فالمكان الذي يبدو من الخارج مجرد مستودعات محاطة بأسلاك شائكة، تحول في الداخل إلى ثقب أسود يبتلع مئات المهاجرين غير الشرعيين، ويجسد تحوّل ليبيا من معبر نحو أوروبا إلى محطة إجبارية للابتزاز والعنف.

المشهد ليس جديداً؛ فمنذ انهيار مؤسسات الدولة بعد 2011، أصبحت ليبيا إحدى أخطر نقاط العبور نحو المتوسط. آلاف المهاجرين الذين يعترضهم خفر السواحل الليبي، بدعم وتمويل من الاتحاد الأوروبي، ينقلون قسراً إلى شبكة من مراكز الاحتجاز.


وتصف تقارير المنظمة الدولية للهجرة ظروف هذه المراكز بأنها غير إنسانية، لكن بئر الغنم برز بشكل خاص بسبب ما يتداوله حقوقيون من روايات صادمة عن أوضاعه.

تقديرات حديثة أشارت إلى أن نحو ستمائة مهاجر من أكثر من عشر جنسيات محتجزون في المركز، بينهم قُصَّر من مصر والمغرب وتونس وسوريا وأفغانستان وباكستان وبنغلاديش.

وتؤكد شهادات محلية أن الغرف المكتظة تفتقر إلى التهوية والمياه والطعام، ما يجعلها بيئة خصبة للأمراض وسوء التغذية.

ووثقت منظمات مثل “هيومن رايتس ووتش” و”ضحايا لحقوق الإنسان” أن بعض هؤلاء يُجبرون على أعمال شاقة داخل المركز وخارجه، فيما يتعرض آخرون للضرب والتعذيب والتهديد بالاعتداء الجنسي.

الأخطر أن عائلات المحتجزين تتلقى مكالمات لابتزازها بفدية تصل إلى أربعة عشر ألف دينار ليبي، كما في حالة الفتى المصري محمد محمود بدوي (17 عاماً) المحتجز منذ أغسطس الماضي.

وألقى المجلس الوطني للحريات باللوم على سفارات المهاجرين التي تتأخر في إصدار وثائق سفر، ما يطيل أمد الاحتجاز؛ لكن ناشطين يرفضون هذا الطرح، مؤكدين أن أصل الأزمة داخلي، يرتبط بصراعات جهاز مكافحة الهجرة منذ قرار إغلاق المركز في 2021، وتستر السلطات ومنع المنظمات من التوثيق.

واتسعت أبعاد الأزمة بعد ما كشفته منظمة “ميديتيرانيا” الإيطالية، التي قدمت في أغسطس الماضي صوراً ومقاطع فيديو إلى المحكمة الجنائية الدولية وإلى النيابة في صقلية، تظهر عناصر من الكتيبة 80 التابعة للواء 111 – بقيادة نائب وزير الدفاع عبد السلام الزوبي – وهم يلقون عشرة مهاجرين في البحر، ما أدى إلى مقتل أربعة منهم.

وأثارت الفضيحة ضجة في روما، حيث اتهم نواب المعارضة حكومة ميلوني بالتعاون مع مهربي بشر يرتدون الزي الرسمي. هكذا تحوّلت الحادثة إلى دليل إضافي على أن الممارسات الميليشياوية ليست مجرد تجاوزات فردية، بل جزء من منظومة متشابكة تجمع بين أجهزة الدولة ودوائر التهريب.

في خلفية المشهد، يلوح الدور الأوروبي بوضوح. فالاتحاد الأوروبي يواصل تمويل وتدريب خفر السواحل الليبي ضمن سياسة “إبقاء المهاجرين بعيداً عن شواطئه”، ما يجعل بروكسل شريكاً موضوعياً في استمرار الانتهاكات، بينما داخلياً، فالمراكز باتت ورقة نفوذ في أيدي أمراء الحرب وقادة الأجهزة، سواء عبر استخدامها كأداة ابتزاز مالي أو كورقة ضغط سياسية.

وراء هذه الأرقام قصص إنسانية لا تنتهي: قُصَّر مفقودون من أفريقيا وآسيا فقدوا الاتصال بعائلاتهم، محتجزون ينامون في عنابر بلا إضاءة أو صرف صحي، وأسر في القاهرة تتلقى اتصالات غامضة لابتزازها.

وتكشف هذه المأساة اليومية أن ليبيا لم تعد مجرد محطة عبور، بل تحولت إلى أكبر معسكر احتجاز مفتوح للمهاجرين في المتوسط.

ورغم إعلان جهاز مكافحة الهجرة عن عمليات ترحيل محدودة، كإعادة عشرات المصريين أو تسليم بعض الباكستانيين إلى سفاراتهم، تبقى هذه خطوات شكلية أمام حجم الكارثة. فبرامج العودة الطوعية التي تدعو إليها المنظمة الدولية للهجرة، أو حماية القاصرين التي تطرحها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، تصطدم جميعها ببيئة أمنية فوضوية وتداخل في الصلاحيات بين الحكومة والميليشيات.

خلاصة المشهد أن أزمة بئر الغنم لم تعد مجرد قضية حقوقية، بل عنواناً لتشابك المصالح بين الداخل الليبي والخارج الأوروبي، في ظل تورط مباشر لميليشيات وقيادات رسمية في انتهاكات تصل إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية.

وبين هذين الوجهين، يظل المهاجرون في غرب ليبيا أسرى فراغ قانوني وصراع مصالح، بلا أفق قريب للحل، ليبقى السؤال: هل يمكن محاسبة المتورطين – محلياً ودولياً – بينما تدفع أوروبا فاتورة الصمت حفاظاً على حدودها الجنوبية؟