الخطوط الجوية الليبية من الريادة إلى طائرتين فقط.. هل يستمر الناقل الوطني؟

0
156

تُمثل شركات الطيران الوطنية مظهراً من مظاهر السيادة وركيزة لهيبة الدولة، ومرآة لحضورها الاقتصادي والجيوسياسي، لكن الحال في ليبيا بات يعكس نقيض ذلك، مع بلوغ شركة الخطوط الجوية الليبية، أقدم ناقل وطني، مرحلة غير مسبوقة من التدهور، بعدما كانت تسير رحلاتها إلى أكثر من 25 وجهة دولية وإقليمية عبر أسطول مكوّن من 17 طائرة، ولم يتبق منه اليوم سوى طائرتين فقط بالكاد تعملان.

وخلال شهر يوليو الجاري، أعلنت الشركة دخولها في أزمة مالية وصفت بغير المسبوقة، وسط حديث متنامٍ عن احتمال إفلاسها، ما دفعها إلى توضيح أن الأمر لا يتعلق بالإفلاس، بل بضائقة مالية مزمنة تعود جذورها إلى الحروب المتعاقبة منذ العام 2011، والتي تسببت في تدمير معظم طائرات الأسطول، ووفق بيانات رسمية، فإن عدد الوجهات تقلّص إلى ثلاث فقط، ما يعكس حجم الانكماش الحاد الذي تعانيه الشركة.

ويشير مراقبون إلى أن ما تمر به الخطوط الجوية الليبية لا يرتبط فقط بالخسائر المباشرة الناتجة عن الحرب، بل يتصل أيضًا بانهيار داخلي في الهيكل الإداري والمالي والتنظيمي، وغياب الحوكمة، وتسييس القرار، وافتقار الإدارات المتعاقبة إلى الكفاءة والمهنية.

ويُنتقد غياب أي تحركات قانونية من قبل الشركة للمطالبة بتعويضات عن الأضرار الجسيمة التي لحقت بها، رغم وجود تعهدات سابقة من جهات رسمية بتحمّل أخطار الحرب، كما لم تُسجل أي دعاوى قضائية أو مذكرات قانونية بهذا الشأن.

يُضاف إلى ذلك أن الشركة المالكة، الليبية الأفريقية القابضة، اكتفت بدور المراقب دون تحمل مسؤوليتها المالية أو الإدارية، ولم تستكمل تسديد رأس مال الشركة البالغ أكثر من 563 مليون دينار، وهو ما حرم الأخيرة من القدرة على صيانة طائراتها أو إعادة تشغيلها، كما أن الأزمة المالية تفاقمت بفعل تأخر صرف رواتب العاملين لأكثر من ست سنوات، ما ساهم في خلق حالة من الإحباط والاستنزاف داخل الشركة.

ويرى مختصون أن تدهور أوضاع الخطوط الجوية يعكس حجم الانقسام السياسي والمؤسسي الذي تعانيه البلاد، حيث غابت المركزية ومرجعية القرار الموحد، وتحول قطاع الطيران إلى مساحة للمحاصصة وتوزيع النفوذ، وسط تفكك واضح في بنية المؤسسات الرقابية والإدارية، ففي ظل هذا الواقع، أصبح من الصعب الحديث عن خطة وطنية موحدة لتطوير قطاع الطيران أو حتى وقف تراجعه.

وبينما تعيش الشركة هذا الوضع المتأزم، قال وكيل وزارة المواصلات في حكومة الوحدة الوطنية إن الوزارة شرعت في تنفيذ برنامج لإعادة الهيكلة يشمل تقليص الملاك الوظيفي بإحالة 1670 موظفاً إلى التقاعد المبكر، بالتنسيق مع وزارتي العمل والخدمة المدنية، مع متابعة صرف المرتبات المتأخرة وتوفير برامج صيانة لتمكين الشركة من الاستمرار، كما أشار إلى وجود تنسيق مع وزارة المالية لتوفير إعفاءات جمركية على قطع الغيار، والعمل على توفير دعم مباشر لسعر وقود الطائرات.

لكن هذه الإجراءات، في رأي العديد من المتابعين، لا تكفي ما لم تُرفق بخطوات جادة تشمل معالجة الخلل المؤسسي العميق، وتوفير الدولار الرسمي لصيانة الأسطول بدل اللجوء إلى السوق الموازي، وفتح المجال لشراكات أو حلول قانونية تضع الشركة على طريق الاستقرار.

ولا تقتصر انعكاسات هذا التراجع على الشركة فقط، بل أثرت مباشرة على السوق والمستهلك، حيث ارتفعت أسعار التذاكر نتيجة انكماش الأسطول وتقلّص الوجهات، ما أدى إلى خسارة فرص اقتصادية وسياحية حيوية، وتآكل صورة ليبيا كدولة ذات قدرة سيادية على إدارة قطاع طيرانها الوطني. 

وتشير تقديرات مختصين إلى أن استعادة مكانة الخطوط الليبية لا يمكن أن تتم فقط عبر شراء طائرات جديدة أو إنفاق مالي إضافي، بل تستدعي إصلاحات جذرية تبدأ بإرساء قواعد حوكمة إدارية قائمة على الكفاءة، وفصل القرار الفني عن التدخلات السياسية والمسلحة، وتنظيم العلاقة مع المسافرين قانونياً ومؤسساتياً، إلى جانب محاسبة أداء الشركة القابضة ومراجعة دورها في تفاقم الأزمة، وتبني سياسة وطنية شاملة ومستقلة تنظم قطاع الطيران المدني وفق معايير استدامة ومهنية.

ويظل بقاء الخطوط الجوية الليبية مرهوناً بقدرة الدولة على إخراج هذا القطاع من دائرة الصراع والتجاذب، والتعامل معه كأولوية سيادية لا تقل أهمية عن الأمن أو الاقتصاد، فعودة الناقل الوطني إلى التحليق ليست مجرد ضرورة خدمية، بل عنوان لعودة الدولة نفسها.