غياب المنظومة الرقابية ينذر بكارثة في ليبيا.. فإلى متى ينخر الفساد في مفاصلها؟

0
277
علم ليبيا
علم ليبيا

هَيأت الظروف السياسية والأمنية القاسية التي عشاتها ليبيا، على مدار عقد وبضع سنوات، إلى ترسيخ الفساد في شتى القطاعات، ففي الوقت الذي ينتقد فيه الكثيرون وجود الميليشيات وتقالتها بالسلاح لفرض السلطة والنفوذ، كان هناك من ينهب أموال الشعب الليبي في ظل انهيار شبه كامل للمنظومة الحسابية والرقابية.

فساد من نوع آخر ظهر في ليبيا استهدف مؤسسات الدولة، يمكن عنونته بـ”الفساد المؤسسي”، وهذا النوع من الفساد، لم يُخلق بين يوم وليلة، وإنما تراكم الصراعات على مر السنوات، كان بمثابة البيئة الحاضنة التي سهلت تواجده وتناميه بوتيرة ثابتة ومستمرة، وعلى الرغم من بؤس الأوضاع إلا أن هناك أمل في محاسبة هؤلاء.

فوفقا للتصنيف الدولي للجرائم الاقتصادية لعام 2025، تأتي ليبيا ضمن أخطر عشر دول من حيث انتشار الفساد المالي وغسيل الأموال والجرائم الاقتصادية المنظمة.

وضع ليبيا في هذا التصنيف، يعكس هشاشة البنية السياسية والمؤسسية، والانهيار شبه الكامل للأجهزة الرقابية، لم تعد ليبيا ساحة صراع سياسي فقط، بل أصبحت مركزاً إقليمياً للجريمة المالية العابرة للحدود.

وسلط التقرير الضوء على معاناة ليبيا من غياب التشريعات الرادعة وضعف الرقابة المؤسسية، وهو ما أتاح لمراكز النفوذ والميليشيات مساحة واسعة للتمدد في المجال المالي، بما في ذلك عمليات غسيل الأموال وتمويل الجماعات المسلحة.

أما مازاد من خطورة هذا التقرير، هو التوقعات التي تضمنها، والتي تنبأت وفقا للوتيرة الحالية لجرائم الفساد، أن ترتفع الجرائم المالية الإلكترونية بنسبة 60% بنهاية 2025، نتيجة استغلال أدوات الذكاء الاصطناعي لأغراض الاحتيال، ما يُضاعف من تعقيد الأزمة ويؤكد اختراق البنية الرقمية للدولة.

أما عن أحد أبرز تجليات الفساد المالي في ليبيا يتمثل في تحويل قطاع النفط إلى أداة سياسية بيد حكومة الوحدة الوطنية، التي استغلته لتأمين الولاءات وشراء النفوذ، بينما جرى توظيف العائدات خارج الأطر الاقتصادية التنموية.

وتخضع المؤسسة الوطنية للنفط لتجاذبات حادة بين مراكز القوى، مما أفقدها استقلالها وفتح الباب أمام توزيع غير قانوني للإيرادات، في ظل غياب الأجهزة الرقابية القادرة على محاسبة المتورطين.

كما طال الفساد مجالات البنية التحتية والطاقة والتعليم والقطاع المصرفي، حيث أشارت تقارير دولية إلى أن 40% من المشاريع العامة لم تُنفذ رغم رصد موازنات ضخمة لها، ما أدى إلى تفاقم تدهور الخدمات الأساسية، وترك الملايين من المواطنين في مواجهة أوضاع معيشية قاسية.

ولم تمر تداعيات هذا الواقع دون صدى دولي، إذ ناقش مجلس الأمن الأزمة الليبية مؤخرًا، وركّز في جلسته على خطورة الفساد، حيث دعا المندوب الليبي إلى توحيد الترتيبات المالية كخطوة أولى نحو الإصلاح، فيما حذر المندوب الروسي من خطر انفجار اجتماعي قادم إذا استمرت الأزمة الاقتصادية دون معالجة جذرية.

ويشير تقرير حديث صادر عن “المجلس الأطلسي” إلى تصاعد المخاوف بشأن مستقبل الاقتصاد الليبي، في ظل تفشي الفساد وهيمنة التشكيلات المسلحة على مفاصل الهياكل النقدية والمالية.

ووفقا للتقرير، فإن المسار الراهن لا يعكس اختلالاً ظرفياً بقدر ما يُنذر بانهيار بنيوي لا يمكن تجنّبه من خلال قرارات إجرائية أو مجرد إرادة سياسية، بل يتطلب إعادة هيكلة جذرية للمنظومة الاقتصادية والسياسية.

ويأتي سعر الصرف وتعديلا كنموذج على ذلك، فاعتُبر قرار مصرف ليبيا المركزي بتعديل سعر الصرف الرسمي بمثابة استجابة مؤقتة لتفادي الانهيار الكامل، إلا أن القفزات الحادة في سعر السوق الموازية كشفت هشاشة الثقة العامة بالمؤسسات النقدية.

 المعطيات كشفت عن أن الاقتصاد الليبي بات يتحرك خارج نطاق السيطرة الرسمية، مدفوعاً بعوامل غير مؤسسية وممارسات تتسم بالعشوائية والتحايل على القوانين.

ولم يخلو القطاع المصرف البنوك من الفساد بالإضافة إلى البلديات والميزانات التي يتم صرفها لدعم البنية التحتية وخاصة في غرب ليبيا، فمؤخرا أمرت النيابة العامة الليبية بحبس عدد من المسؤولين في بلدية طرابلس، على خلفية تورطهم في قضايا فساد مالي تتعلق بتوريدات مشبوهة وتلاعب في أسعار المشتريات.

وقال مكتب النائب العام، إن التحقيقات جاءت استناداً إلى بلاغ تلقّته النيابة من جهاز الأمن الداخلي، كشف عن وجود مخالفات في إدارة الشؤون المالية داخل البلدية.

وشملت قائمة المتهمين كلاً من مسؤول الشؤون الإدارية والمالية، ورئيس لجنة المشتريات، ومدير إدارة الإيراد المحلي، وعضو لجنة المشتريات.

وبحسب نتائج التحقيقات، ثبت تورط المتهمين في ترتيب عمليات توريد لصالح شركة يمتلكها أحد أعضاء لجنة المشتريات، مع تواطئهم في رفع أسعار الأصناف الواردة إلى مخازن البلدية بنسبة وصلت إلى 20% فوق سعر السوق، فضلاً عن تلقيهم عطايا مقابل تسهيل صرف أثمان تلك التوريدات.

وفي واقعة مشابهة، أصدرت النيابة العامة الليبية أمراً بحبس مسؤول مكتب الشركة الليبية للاستثمارات الخارجية في المملكة المغربية، إضافة إلى مسؤولي الخدمات والشؤون الفنية في الشركة، على خلفية اتهامات تتعلق بمخالفات مالية وإدارية.

ووفق مكتب النائب العام، فقد استقصى نائب النيابة وقائع الانحراف عن مقتضيات الوظيفة من قبل المتهمين، حيث ثبت تعمدهم صرف مقابل عقود عمل محلية دون أن يتم إسناد أي وظائف للأشخاص المتعاقد معهم.

كما أصدرت محكمة استئناف الزاوية حكمًا يقضي بحبس مدير فرع مصرف الجمهورية ببلدية الرقدالين وموظفين آخرين، على خلفية تورطهم في جريمة اختلاس مالي بقيمة مليون وخمسمائة ألف دينار ليبي.

وأوضحت النيابة العامة أنها أقامت الدعوى العمومية ضد كل من مدير الفرع، وموظف بمراقبة الخدمات المالية في بلدية الرقدالين، ومفوَّض بإدارة حساب جارٍ بالمصرف، بتهمة تزوير صك مصرفي استُخدم للاستيلاء على القيم المالية المخصصة لمرتبات الموظفين العموميين.