صندوق النقد الدولي يوصي ليبيا بتنفيذ إصلاحات عاجلة لتحقيق الاستقرار المالي

0
202
صندوق النقد الدولي
صندوق النقد الدولي

أصدر صندوق النقد الدولي اليوم الأربعاء، بيانًا ختاميًا عقب انتهاء مشاوراته مع مصرف ليبيا المركزي ضمن مشاورات المادة الرابعة لعام 2025، والتي ناقشت خلالها أوضاع الاقتصاد الليبي، وتقييم السياسات النقدية والمالية والتجارية المتبعة خلال عام 2024، إلى جانب مراجعة أبرز الإجراءات التي اتخذها المصرف المركزي الليبي خلال الربع الأول من العام الجاري.

وأكد الصندوق في بيانه أن الخلاف الذي وقع حول قيادة مصرف ليبيا المركزي في أغسطس من العام الماضي، وما تبعه من اضطرابات في إنتاج النفط، ألقى بظلاله السلبية على معدلات النمو الاقتصادي خلال عام 2024، حيث تسبب في انكماش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، وذلك بفعل التراجع القسري في الناتج الهيدروكربوني، رغم أن الأنشطة غير النفطية واصلت توسعها بدعم من استمرار الإنفاق الحكومي. وأشار الصندوق إلى أن إنتاج النفط عاد للانتعاش عقب تسوية الخلاف، ليرتفع تدريجيًا ويقترب حاليًا من مستوى 1.4 مليون برميل يوميًا.

كما أوضح البيان أن معدل التضخم الرسمي استقر عند حدود 2% خلال عام 2024، وهو معدل منخفض نسبيًا نتيجة استمرار الدعم الحكومي المكثف، لكنه أشار في الوقت نفسه إلى أن مشاكل القياس أثرت على دقة هذه النسبة، حيث أن مؤشر أسعار المستهلك كان يستند إلى سلة استهلاك قديمة مقتصرة على مدينة طرابلس فقط، مما جعل الأرقام لا تعكس التباينات الحقيقية للأسعار في باقي مناطق البلاد. وقد بادرت مصلحة الإحصاء والتعداد مؤخرًا إلى إدخال مؤشر جديد محدث لأسعار المستهلك يغطي نطاقًا جغرافيًا أوسع ويعتمد أوزانًا أكثر تعبيرًا عن أنماط الاستهلاك الحالية.

وتحدث البيان أيضًا عن الوضع المالي للدولة، مشيرًا إلى أن تقديرات الصندوق توضح أن ليبيا سجلت عجزًا في الموازنة العامة وكذلك في ميزان الحساب الجاري خلال عام 2024، وهو تحول ملحوظ مقارنة بعام 2023 الذي شهد فائضًا كبيرًا. وعزا الصندوق هذا العجز إلى التراجع الحاد في صادرات النفط، نتيجة توقف عمليات الإنتاج والتصدير، بينما ظلت الواردات مستقرة دون تغيير كبير، في وقت واصل فيه الإنفاق الحكومي ارتفاعه لتلبية الأعباء المتزايدة. ورغم هذا العجز، أشار الصندوق إلى أن احتياطيات النقد الأجنبي ظلت عند مستويات مريحة بفضل قيام مصرف ليبيا المركزي بإعادة تقييم احتياطيات الذهب.

وعلى صعيد القطاع المصرفي، أثنى صندوق النقد الدولي على الجهود التي بذلها المصرف المركزي لدعم استقرار النظام المالي، مشيرًا إلى أن البنوك المحلية نجحت خلال عام 2024 في استكمال زيادة رؤوس أموالها تلبية لمتطلبات لجنة بازل 2، وهو ما أدى إلى مضاعفة رأس المال المدفوع عبر غالبية المصارف، فضلاً عن تحسن ملحوظ في مؤشرات السلامة المالية وانخفاض نسب القروض المتعثرة. وأكد البيان أن نمو الائتمان الممنوح للقطاع الخاص ظل قويًا على مدار العام، مدفوعًا بالمرابحات التي تقدمها المصارف للأفراد والقروض المالية الموجهة لموظفي القطاع العام، فيما بقي التمويل المخصص للشركات محدودًا بسبب استمرار القيود القانونية وضعف بيئة الأعمال.

وتوقع الصندوق أن يظل قطاع النفط هو العنصر الحاسم في مستقبل الاقتصاد الليبي، مشيرًا إلى أن إنتاج النفط يشهد تحسنًا في 2025، وهو ما سيدفع نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى التعافي، لكن الصندوق رجّح أن يتراجع النمو تدريجيًا على المدى المتوسط بسبب التوقعات بانخفاض أسعار النفط عالميًا واستمرار توجه الحكومة نحو إنفاق كافة الإيرادات النفطية. وفي المقابل، رجّح البيان أن يحافظ القطاع غير الهيدروكربوني على متوسط نمو يتراوح بين 5 إلى 6% مدعومًا باستمرار الإنفاق العام.

ولم يُخفِ الصندوق قلقه حيال التحديات المستقبلية، حيث أشار إلى أن توقعات الاقتصاد الليبي تخضع لمستوى عالٍ من عدم اليقين، وأن المخاطر تميل في مجملها نحو الانخفاض، خاصة في ظل استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي محليًا، وتقلب أسعار النفط عالميًا، إضافة إلى تصاعد التوترات الإقليمية، واستمرار ظاهرة التشرذم الجيواقتصادي.

ودعا الصندوق السلطات الليبية إلى إعطاء الأولوية لتوحيد الميزانية العامة، وهو ما سيعزز الشفافية ويساعد في ضبط الإنفاق وتحديد الأولويات على نحو أكثر فعالية، محذرًا في الوقت نفسه من مغبة الاستسلام لضغوط رفع الإنفاق الجاري، لاسيما فيما يتعلق بكتلة الرواتب ونفقات الدعم. وأكد على أهمية بناء القدرات المؤسسية داخل وزارة المالية، خاصة عبر تعزيز وحدة الاقتصاد الكلي لتحسين إدارة المالية العامة.

وعلى المدى المتوسط، شدد الصندوق على أن ليبيا ستكون بحاجة إلى تنفيذ إصلاحات مالية شاملة للحفاظ على الاستدامة وضمان العدالة بين الأجيال، داعيًا إلى البدء بمراجعة الدعم المخصص للأجور والطاقة بشكل تدريجي ومنتظم، وتوسيع نطاق تعبئة الإيرادات غير النفطية عبر تنشيط مصادر الدخل البديلة.

وفي إشارة إلى الإجراءات النقدية الأخيرة، تناول البيان قرار مصرف ليبيا المركزي بخفض قيمة الدينار بنسبة 13% مطلع أبريل الجاري، إضافة إلى تشديد القيود على النقد الأجنبي من أجل تخفيف الضغوط الواقعة على احتياطيات البلاد من العملة الصعبة. وأكد الصندوق أن هذه الخطوات تعكس غياب أدوات السياسة النقدية التقليدية، وهو ما يجعل ضبط الإنفاق المالي هو الأداة الأكثر فاعلية ضمن الأطر الاقتصادية المتاحة في ليبيا حاليًا. ومع ذلك، نبّه الصندوق إلى أن حالة عدم الاستقرار السياسي والتشظي المؤسسي قد تعيق قدرة السلطات على معالجة ضغوط الإنفاق خلال الفترة القصيرة المقبلة.

كما دعا البيان السلطات الليبية إلى تقليص الفجوة القائمة بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق الموازية، موصيًا بإلغاء تدريجي لضريبة النقد الأجنبي، وتخفيف القيود على تحويل العملات، مع الحرص على المحافظة على احتياطيات النقد الأجنبي عند مستويات آمنة.

وأكد الصندوق على ضرورة قيام مصرف ليبيا المركزي بوضع إطار عمل واضح وفعّال للسياسة النقدية، مع تحديد سعر فائدة مرجعي يستند إليه النظام المصرفي، بما يمكنه من الاستجابة للظروف الاقتصادية المتغيرة، ويمنح البنوك والمؤسسات المالية أداة دقيقة لتحديد تكاليف الإقراض وأسعار الفائدة.

ورحّب البيان بالجهود التي يبذلها المصرف المركزي لتعزيز الشمول المالي وتشجيع التحول نحو المدفوعات الإلكترونية وضخ أوراق نقدية جديدة في السوق، معتبرًا أن هذه الخطوات ضرورية لمعالجة ظاهرة اكتناز النقد، واستعادة الثقة بالقطاع المصرفي. كما دعا إلى تعزيز مستوى الشفافية والمساءلة، وتوفير خطط ادخار جذابة للمواطنين، باعتبار أن هذه الخطوات ستسهم بدورها في دعم التمويل الموجه للقطاع الخاص وتحفيز النشاط الاقتصادي.

وشدد الصندوق على أهمية استمرار السلطات الليبية في تطوير الإطار القانوني والرقابي الخاص بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، بما يتماشى مع المعايير الدولية، لضمان استقرار علاقات المصارف المراسلة، والحفاظ على سلامة النظام المالي في ليبيا.

كما أكد البيان أن تعزيز التنوع الاقتصادي في ليبيا يتطلب معالجة التحديات التي تعيق نمو القطاع الخاص، مشيرًا إلى أن الاقتصاد غير الرسمي ما زال يحتل مساحة واسعة بسبب استمرار الغموض السياسي، وضعف الأطر التنظيمية التي تنظم بيئة الأعمال والاستثمار. وأوضح أن أبرز العقبات التي تواجه الشركات الليبية تتمثل في محدودية فرص الوصول إلى التمويل، وصعوبة الحصول على العملات الأجنبية، واستمرار هيمنة الوظائف العامة، إلى جانب ضعف مستوى الحوكمة.

وأشار الصندوق إلى أن البنوك الليبية ما تزال تفتقر إلى إطار قانوني واضح لمنح التمويل، خاصة بعد فرض قانون حظر الفوائد، ودعا السلطات إلى تبني خطة إصلاح اقتصادي شاملة تركّز على تهيئة بيئة ملائمة لنمو القطاع الخاص، من خلال تطوير التشريعات، وتوسيع فرص التمويل، وتحسين الوضع الأمني.

وفي جانب الحوكمة، رأى الصندوق أن الإصلاحات في هذا المجال ضرورية لتحقيق نمو اقتصادي مستدام، مرحبًا بالخطوات الإيجابية التي اتخذها مصرف ليبيا المركزي مؤخرًا لتعزيز حوكمة البنوك المحلية. كما أشاد الصندوق بنشر ديوان المحاسبة الليبي لتقاريره السنوية، إلى جانب اعتماد ليبيا استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد، لكنه نبه إلى أن نقاط الضعف المؤسسية لا تزال قائمة، خاصة في إدارة المؤسسات العامة، والإشراف على الإنفاق الحكومي، وسيادة القانون، معتبرًا أن معالجة هذه التحديات في الوقت المناسب من شأنها أن تسهم في خلق بيئة أعمال أكثر استقرارًا ودعم نشاط القطاع الخاص.

وفي ختام بيانه، أعلن صندوق النقد الدولي أن مشاورات المادة الرابعة المقبلة ستُعقد في ربيع عام 2026، معربًا عن شكره للسلطات الليبية وكافة الشركاء على ما وصفه بالحوار البنّاء والتعاون المثمر، مشيدًا بالتحسينات التي تحققت في جمع البيانات الاقتصادية ومشاركتها، والجهود المبذولة لتعزيز الشفافية المالية في البلاد.