فكرت مرارا وتكرارا ماذا يعتقد غير الليبيين عما يحدث في بلدي ليبيا، بعد 13 عاما من سقوط نظام الراحل معمر القذافي، وهل الاحتفالات التي تبث في القنوات المحلية وما يتم نشره عبر منصات التواصل الاجتماعي فعلا يعبر عن واقعنا كشعب ليبي؟
وما استفزني كثيرا عندما تم إجراء لقاءات صحفية في الفترة الأخيرة، يبدو لي جدا أنها كانت مدفوعة الثمن، لخديجة بن قنة، وطوني خليفة، وعمار التقي، من أجل تمرير وجهة نظر مفبركة عن الوضع في ليبيا، أجريت مع رئيس حكومة منتهية الولاية دون الخوض معه في تفاصيل بدوافع صحفية قوية من أجل إظهار الحقيقة.
تنقلت من صحيفة لأخرى _ وأنا محب للصحافة _ فقررت أن اختار “صحيفة الشاهد” لأكتب مقالا للرأي، ويكون شاهدا أمام كل القراء الليبيين وغير الليبيين من العرب والأجانب على حدٍ سواء.
أنا مواطن بسيط ومن عائلة تنحدر أصولها من الأب والأم من شرق وغرب البلاد، ولدينا أصدقاء، ونسب، وجيران من كل المدن والقبائل، وما أعنيه مما ذكرت، أنني على اطلاع وفهم مباشر لما يحدث في بلدي من اختلاف اجتماعي وتركيبات قبائلية.
أسكن في العاصمة طرابلس، أعمل مترجم، تنقلت بين المنظمات والشركات الحكومية والخاصة، وعلى اطلاع وفهم للحالة الليبية والسياسية والاقتصادية، لكن اليوم سأسرد لكم لماذا لا احتفل بالذكرى الثالثة عشر لأحداث السابع عشر من فبراير التي قُتل فيها العقيد معمر القذافي.
أنا كمواطن كنت أحلم بالتغيير عندما انتفضت مدينة بنغازي في شرق البلاد، والحقيقة تقال، أن نظام القذافي كان له ما له وعليه ما عليه، وتمنيت أن يكون للبلد دستور وانتخابات رئاسية وبرلمانية واحدة تلو الأخرى للتداول السلمي للسلطة.
ولكن ما أن تم انتخاب أول برلمان في البلاد عام 2012، وسُمي “بالمؤتمر الوطني العام”، حتى بدأت اللعبة تنكشف لدي.
منذ ذلك الحين وبدأت الاختلافات السياسية بين الأحزاب التي لا تتمتع بحق دستوري في ممارسة عملها، حتى وصل الأمر إلى الصراع المسلح، وصل الأمر إلى حرب أُحرق ودُمر فيها مطار طرابلس الدولي عام 2014 وانقسمت البلاد بين الشرق والغرب بعد انتخابات برلمانية جديدة، لاختيار برلمان آخر سُمي بـ “مجلس النواب”.
أصبح لكل تكتل سياسي جناح عسكري، وتوغل المسلحون على شكل مليشيات في حكم الدولة، وسيطروا بقوة على المؤسسات السيادية.
قتل ودمار وتشريد وتهديد في العلن، اشتباكات بكل أنواع الأسلحة وسط الأحياء المكتظة بالسكان، خُطف رئيس حكومة ومسؤولين، وغادرت الشركات الأجنبية والبعثات الدبلوماسية، خوف ورعب نقص في الخدمات وإظلام، وأصبحت البلد في عُزلة دولية وإقليمية، والقائمة لا تنتهي.
البلد يعيش وفق قرارات دولية مبنية على تقارير لبعثة الأمم المتحدة، ولها مبعوث يصول ويجول بين الوزراء والمسؤولين وغيرهم من تركيبات مجتمعية مختلفة، وليبيا لازالت تحت البند السابع بقرار من مجلس الأمن، وهذا يعني أن لا سيادة لهذا البلد.
وعلى الرغم من كل هذا، كلما أقترب موعد تاريخ السابع عشر من فبراير، نجد السلطة المتحكمة في العاصمة طرابلس، تبدأ في تجهيزات الاحتفالات، تجد الشركات الخدمية تقوم بتنظيف الشوارع والطرقات الرئيسية وطلاء الأرصفة، وتضع رايات وتقوم بتركيب إنارة في أشكال مختلفة.
كنت قبل يومين في سيارتي بطريق الشط، وكان الطريق مزدحم، وفجأة وجدت مركبة حمولة تقوم بوضع الزينة أمام مقر البنك المركزي، ولوهلة تذكرت نفس الوقت عندما كنت طالبا، عندما كانت ذات الشركة تقوم بوضع ذات الزينة، ولكن للاحتفاء بثورة الفاتح من سبتمبر، الذي انقلب فيها القذافي في الأول من ذات الشهر عام 1969 على نظام المكلية.
فبراير هي الوجه الآخر للفاتح، هما نفس الوجه، ولكن ليس لعملة، وإنما لنفس الجلاد الذي يريد أن يحكم هذا البلد بإي وسيلة.
فكما كان مؤيدو النظام السابق يتسابقون على وضع الزينة واستفزاز المعارضين وقتها، فنحن اليوم نعيش نفس الحالة ولكن بمرار أكبر.
مرار الدمار، والحروب، وحكم المليشيات، والعزلة، وفقدان قيمة العملة، وتدهور الحالة الاقتصادية، وتشظي الحالة الاجتماعية، وتفكك، نرى اليوم مؤيدي فبراير يستفزون معارضيهم بنفس الطريقة غير ملتفتين لما يجري من انهيار للبلاد.
ولأن حرية التعبير أصبحت العدو الأول في زمن فبراير، لا أستطيع أن أعبر عن رأي أمام الجميع، وأقول أن الاحتفال على حساب الدمار والموت والحروب وفئات المجتمع المظلومة لا يجوز وغير منطقي.
وعلى الرغم من أن أحد شعارات ثورة فبراير كانت حرية التعبير، لا نجد للحرية مكانا بيننا اليوم، ولكن تتسع زنزانات الميليشيات لمن يريد البوح بذلك.
لم ولن احتفل مادامت ليبيا تحت البند السابع، ولم ولن احتفل مادامت هناك مجموعات من المرتزقة في كل مكان، لم ولن احتفل مادامت قيمة الدينار في هبوط مستمر أمام الدولار، لم ولن احتفل مادامت الانتخابات معطلة عن قصد وعمد لأنها لا تناسب ولا ترضي أهواء الديناصورات السياسيين والمسؤولين، كما اسمتهم مبعوثة الولايات المتحدة الأمريكية السابقة، ستيفاني ويليامز.
لم ولن أحتفل مادام جرح مدينة درنة لم يندمل وهناك الاف يبحثون عن أحبتهم في مدينة أختفى نصفها في إعصار دانيال في سبتمبر من العام الماضي. ولم لن أحتفل مادام هناك الاف مازالوا في سجون سرية بدون محاكمات عادلة. لم ولن أحتفل أحتفل مادامت العاصمة مرتع للمليشيات مقسمة مربعات أمنية فيما بينهم ويحكمون بإسم ثورة فبراير.
لم ولن أحتفل واثار الحروب مازالت تشهد على صراعات مسلحة لم يمر عليها كثيرا. لم ولن أحتفل وملف المصالحة الوطنية الكفيل أن ينهي جزء كبير من الازمة في ليبيا أوكل إلى جسم أختارته الامم المتحدة يسمة المجلس الرئاسي تفوق في السفر لحضور قمم دولية وإقليمية دون تحقيق خطوة ثمينة وواقعية نحو المصالحة.
لم ولن احتفل مادام مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، جسمين تشريعيين، أُعيدت لهم الحياة بعد انقضاء مدتهم المحددة، ليستمروا في التمتع بمرتبات ومزايا من بدل سكن وسيارة ودراسة في الخارج لأبنائهم، مازالوا في الحكم ويتحدثون باسم الشعب.
لم ولن احتفل مادامت هناك أمهات وزوجات على أمل رجوع المفقودين، أو رد الحق بالعدل في المقتولين بسبب الحروب والثأر، لم ولن احتفل مادام سفراء البعثات الدبلوماسية يتحكمون في المشهد السياسي ببيانات يعلنون فيها دعم الشرعية لرئيس حكومة دون الآخر.
لم ولن احتفل مادام الدول الغربية تحذر رعاياها من السفر إلى ليبيا بسبب غياب الأمن، لم ولن احتفل مادامت ثروات ليبيا تُهرب إلى دول الجوار، لم ولن احتفل مادامت هناك طوابير أمام المصارف للحصول على المرتبات المتأخرة، وطوابير بنزين، وطوابير على غاز الطهي الذي يوزع بالقوائم.
لم ولن احتفل مادام سفراء الدول الغربية يلتقون بمسؤولين في مناصب سيادية ويناقشون أمور حساسة لا ينبغي الاطلاع عليها سواء من السلطات الليبية، لم ولن احتفل مادامت مراكز الشرطة هي عبارة عن مقرات شكلية لمؤسسة الشرطة والقوة الفعلية بيد الميليشيات.
لم ولن احتفل مادامت شوارع طرابلس مكتظة بعربات ذات نوافذ سوداء، يغلقوها ليلا من أجل بوابات أمنية، لم ولن احتفل مادام شخصيات ذات ميول إسلامي تسيطر على عناصر مسلحة وتحركها دون موافقة أو علم ما يسمى برئيس الأركان، لم ولن احتفل مادام مهرب بشر ووقود مطلوب دوليا يُنصب آمرا للكلية البحرية على الرغم من صغر سنه ووجود شخصيات لها الأقدمية العسكرية في هذا المجال.
لم ولن احتفل مادامت السلطات التنفيذية التي اختارتها بعثة الأمم المتحدة في صفقة سياسية فاسدة وسلطات تشريعية، تتواجد في الحكم منذ سنوات ولا ترغب في التنحي عن السلطة، لم ولن احتفل مادامت سواحل ليبيا أصبحت نقطة انطلاق مئات القوارب المتهالكة بالمهاجرين ومن لم يحالفه الحظ في الهروب يحجز في مراكز احتجاز تحت سيطرة الميليشيات، يعيشون فيها أقسى أنواع العذاب.
لم ولن احتفل مادام هناك آلاف من مرضى الأورام وغيرها من الأمراض المزمنة يعانون، وغير قادرين على دفع أسعار العلاج التي وصلت إلى الآلاف، لم ولن احتفل مادامت المستشفيات الحكومية ترغم المواطن على شراء بعض المعدات والتجهيزات الطبية لإجراء عملية.
لم ولن احتفل مادامت تقارير ديوان المحاسبة، تتحدث عن انتهاكات جسيمة وفضيعة لإهدار المال العام وإنفاق وصل بالمليارات دون محاسبة مسؤول واحد، لم ولن احتفل مادامت الدائرة الدستورية في المحكمة العليا معطلة والهيئات القضائية تٌهدد.
لم ولن احتفل مادام النفط يُستخرج ويصدر للخارج بعوائد تصل إلى مليار.
رئاسة تحرير صحيفة الشاهد ليست مسؤولة عن آراء الكاتب للمقال.