بعد عام على الإدارة الحالية لمصرف ليبيا المركزي برئاسة ناجي عيسى إدارة المصرف، لم يشهد الاقتصاد الليبي أي انفراجات تذكر، ما يؤكد أن الأزمة الاقتصادية لا يمكن اختزالها في جدل حول الأسماء أو تغيّر الإدارات، بل في غياب رؤية نقدية واقتصادية متكاملة قادرة على التعامل مع تشوّه بنية الاقتصاد نفسه.
ورغم ما أُعلن المصرف المركزي، عن إصلاحات تنظيمية وتقنية، ما زال يواجه معضلة أعمق تتمثل في عجز أدواته النقدية عن معالجة أزمة السيولة والتضخم والانكماش المتزامن في النشاط الإنتاجي.
وهذه المشكلات لم تنشأ حديثاً، بل هي نتاج سنوات من غياب التنسيق بين السلطات المالية، والانقسام السياسي، واعتماد الاقتصاد على ريع النفط دون تنويع حقيقي في مصادر الدخل.
الأزمة الأولى التي يواجهها المصرف المركزي هي أزمة “الثقة”، فالمواطن الليبي لا يثق في المصارف التجارية ولا في قدرة النظام المصرفي على تلبية احتياجاته النقدية، وهي فجوة نفسية، تفاقمت بفعل تجارب سابقة من شح السيولة وتعطّل السحب، جعلت المجتمع يتعامل مع “الكاش” كأداة أمان وليس كوسيلة تبادل نقدي، وهو ما يعمّق ظاهرة الاكتناز خارج المصارف.
وتشير التقديرات إلى أن نسبة كبيرة من النقد المتداول لا تمر عبر النظام المصرفي، ما يفقد المصرف المركزي قدرته على إدارة الكتلة النقدية والتحكم في معدلات التضخم، وبدلاً من معالجة هذه الجذور، اكتفت الإدارة الحالية بإجراءات مثل سحب العملات القديمة وتحديد سقوف السحب، وهي حلول مؤقتة تُنتج آثاراً عكسية لأنها تقلّص العرض النقدي دون أن تزيد الثقة في الجهاز المصرفي.
أما الأزمة الثانية فهي أزمة السياسة النقدية ذاتها، فالمصرف المركزي يعمل في فراغ مؤسسي وسياسي يجعله يمارس صلاحيات مالية ليست من اختصاصه، في محاولة لتعويض غياب وزارة مالية فاعلة.
وخلق هذا التداخل في المهام تشوّهاً في آلية صنع القرار الاقتصادي، حيث بات المصرف يصدر قرارات تمس الإنفاق العام، ويتعامل مباشرة مع قضايا الأجور والدعم والاعتمادات، وهذه الممارسة أضعفت استقلاليته كمؤسسة نقدية، وحوّلته إلى جهة تنفيذية مرتبطة بالسلطة السياسية القائمة، في حين أن المطلوب هو العكس: أن يكون المصرف أداة ضبط وتوازن نقدي، لا طرفاً في إدارة الصراع المالي بين الحكومتين.
إضافة إلى ذلك، تعاني ليبيا من تشوه هيكلي في سوق النقد الأجنبي، إذ توسّع المصرف في بيع العملة الصعبة دون وضع أولويات واضحة للاستيراد، ما أدى إلى استنزاف الاحتياطي من النقد الأجنبي دون أن ينعكس ذلك على استقرار الأسعار أو تحسّن القوة الشرائية للدينار.
فالسوق الموازية لم تعد “مؤقتة” بل أصبحت واقعاً اقتصادياً موازياً يتحكم فعلياً في حركة الأسعار، وبدلاً من كبح هذا المسار، كرّست السياسات الحالية الفجوة بين السوق الرسمية والموازية، لأن أدوات الرقابة ضعيفة، والمعروض من العملة الصعبة يُستخدم غالباً في عمليات مضاربة بدل تمويل إنتاج حقيقي.
أما على صعيد الدفع الإلكتروني، فإن التوجه الذي تبنّته الإدارة الجديدة – رغم طابعه العصري – يفتقر إلى البيئة القانونية والتقنية التي تضمن نجاحه، ففرض استخدام البطاقات والأنظمة الرقمية في ظل غياب البنية التحتية وضعف شبكات الإنترنت يجعل هذه الخطوات أقرب إلى حلول تجميلية لا تمسّ جوهر المشكلة، والأسوأ أن هذا التوجه يُمارس أحياناً بإجبار المواطنين على التعامل إلكترونياً دون جاهزية، ما يعمّق فجوة الثقة ويزيد مقاومة المجتمع لأي إصلاح نقدي.
وفي العمق، فإن أزمة السيولة ليست مالية فقط بل اقتصادية شاملة، فغياب الإنتاج، وضعف الاستثمار المحلي، واستمرار اعتماد الدولة على الإنفاق العام كمحرك وحيد للنشاط الاقتصادي، كلها عوامل تجعل أي سياسة نقدية عاجزة عن تحقيق أثر مستدام.
ولا يمكن لمصرف مركزي أن يضبط الأسعار في اقتصاد لا ينتج شيئاً تقريباً، ولا أن يحقق استقراراً نقدياً في ظل اقتصاد ريعي لا تحكمه دورة إنتاج حقيقية، والإصلاح هنا لا يبدأ من طباعة نقود جديدة أو سحب قديمة، بل من إعادة تعريف علاقة المصرف بالاقتصاد الكلي: من ممول للعجز إلى منظم للدورة المالية والاستثمارية.
ويرى باحثون أن تفاقم مشكلات النقد في ليبيا يعكس غياب ما يمكن تسميته “العقل الاقتصادي للدولة”، إذ تُدار السياسة المالية والنقدية بردود أفعال قصيرة المدى، لا وفق استراتيجية واضحة لمواجهة التضخم أو تقليص الفجوة بين العرض والطلب، فإلى الآن، لا توجد خطة واقعية لإعادة هيكلة المصارف التجارية أو لتشجيع الودائع طويلة الأجل، كما لم تُبذل جهود جادة لتحويل السيولة المكتنزة لدى الأفراد إلى استثمارات داخلية.
وفي المحصلة، تبدو السياسات النقدية الليبية أسيرة المراوحة بين مسكّنات مؤقتة ومبادرات تقنية محدودة، فالمصرف المركزي، رغم ما يتحدث عنه من شفافية وإصلاح، ما زال يدير أزمة لا يعالجها، وبالتالي لن تنجح أي إدارة – مهما كانت نواياها – ما لم تُبْنَ رؤية نقدية حقيقية تقوم على استعادة الثقة، وإعادة هيكلة النظام المصرفي، وتحويل الاقتصاد من ريع إلى إنتاج، عندها فقط يمكن القول إن ليبيا بدأت تتجاوز مرحلة إدارة الأزمة إلى مرحلة بناء اقتصاد قابل للحياة.
- مؤسسة النفط الليبية تُعلن بدء عمليات الحفر الاستكشافية في البئر K1-NC2 بحوض غدامس
- بلدية الخمس تطالب حكومة الوحدة بتنفيذ مشروع “الدوران الآمن” بعد مصرع طالب
- ماذا قدم محافظ مصرف ليبيا المركزي ورجاله بعد مرور عام على توليهم؟
- سفير فرنسا: مستمرون في دعم مسار الانتخابات في ليبيا وترسيخ الديمقراطية
- الخارجية الليبية تحذر من عمليات زرع الكلى في مراكز غير مرخصة بالخارج
- قبائل الزوية: منفذ جريمة بنغازي “مضطرب نفسياً” وسنلاحق مروجي الشائعات
- مديرية أمن بنغازي تكشف تفاصيل جريمة مروّعة: أب يقتل أبناءه السبعة ثم ينتحر
- مؤسسة النفط الليبية تبحث تعزيز جهودها لحماية البيئة والحد من الانبعاثات الغازية
- ليبيا.. المبعوثة الأممية تناقش مع أعضاء مجلس الدولة تنفيذ خارطة الطريق السياسية
- صدام حفتر يزور النصب التذكاري للجندي المجهول في مينسك ويفتتح الملحقية التجارية الليبية
- اللافي يبحث مع رئيس الوزراء القطري سبل تعزيز التعاون ودعم العملية السياسية بليبيا
- مجلس النواب الليبي يُحيل مقترح تجريم اكتناز الأموال خارج المصارف للجنة التشريعية
- المنفي يبحث تعزيز التنسيق مع مجلس الدولة لدفع العملية السياسية بليبيا
- المبعوثة الأممية تبحث مع القائم بالأعمال السعودي تطورات الأوضاع في ليبيا
- ليبيا.. المنفي يودع السفير البريطاني ويشيد بجهوده في تعزيز التواصل بين البلدين